(السجان) قصة قصيرة بقلم.. د. سناء الشعلان

(السجان) قصة قصيرة بقلم.. د. سناء الشعلان - وكالة خبر الاعلامية

السّجّان 



قصّة بقلم د. سناء الشعلان/ الأردن 




ولعه الشّديد بحمل المفاتيح، وبإغلاق الأبواب كان السّبب في أن يخسر عمله الرّشيد الذي سعى إليه طويلاً، وبذل من أجل الوصول إليه النّفيس والرّخيص. يهصره غيظ عظيم، وتهاجمه تباريح الحسد والحقد كلّما تذكّر أنّ ذلك الرّجل المائع ذا الآراء الدّيمقراطيّة وحامل لواء الشّورى يجلس الآن مكانه، ويغور في وافر جلد كرسيه المنجّد الماجد بعد أن ترك الحبل على الغارب، وفتح الأبواب الموصدة، وألقى بمفاتيحه الحبيبة في مكان مظلم مجهول لتصدأ، وتتآكل ناسية منسيّة. 

قيل له إنّ قوى الدّيمقراطيّة وإرادة الشّعب المثقّف الواعي هي من أجبرتْ دولته على إقصائه عن وظيفته الحبيبة، بحجّة أنّه يقمع الحريّات، ويعامل النّاس بمنطق الأنعام السّائمة الضّالة التّي لا تجيد الاهتداء إلى طريق، وعليه أن يقفل الباب عليها كي تكنّ في مكان بعينه، وقيل له كذلك إنّ الجميع بات ينعى عليه عشقه لبابه الأصم ومفاتيحه الخرساء، وما عاد لدولته طاقة بمواجهة غضب الشّعب؛ لذا كان عليه أن يفتح الأبواب، ويخفي المفاتيح ولو إلى حين. 

لكنّه على الرّغم من ذلك يكاد يجزم بأنّ دولته قد أقصاه عن عمله خوفاً من سلطانه النّاشئ الوليد الذي بات يظلّه بغمامة سوداء، وقضيّة غضب الشّعب المثقّف الواعي ما هي إلا حجّة منتقاة وافقتْ هوى دولته. 

هو متأكّد كذلك من أنّ قلق دولته من نفسه المظلمة ومن مكائده القاتمة هو ما منعه من عزله، وجعله يكتفي بانتدابه لعمل آخر في جهازه الأمنيّ السّابق، كان عملاً أصغر من طموحاته، ودون مقامه، وإنْ كان شبهه من عمله الأوّل هو عزاؤه الوحيد فيه؛ فقد عُيّن سجّاناً على ذلك المعارض العتيد لكلّ نظام حازم خيّر، إذ سرعان ما يدعوه بالمستبدّ، ويثوّر النّاس عليه، ومآل معارضته الدّائمة كان هذا السّجن المعتم المنقور في جوف الصّخر، والمأسور للظّلام دون ضوء الشّمس. 

أسعده كثيراً أن يربض على صدر ذلك المشاغب اللّئيم، وأن يشهد عمره يصطلي بنار القيد، وكي يمعن في تعذيبه والتّضييق عليه، فقد التزم بعدم الكلام معه لأيّ سبب كان، كذلك عكف نفسه على اتّخاذ مكان ثابت يراقبه منه حتى في لحظة تغوّطه وتبرّزه واحتلامه كي يمنعه من أيّ سعادة بخلوة أو خصوصيّة، ثم قلّص إجازاته حتى علّقها، وأطال ساعات دوامه في المكان، حتّى غدا عمله إقامة دائمة في المكان كي يكون العين الشّرّيرة الرّقيبة عليه، ومنع أيّ زيارة أو مقابلة صحفيّة أو كتاب أو صحيفة أو خبر طائر من هنا وهناك أن يحطّ في زنزانة المشاغب السّجين. 

فرح إذ رأى المشاغب يذوي حزناً وقهراً، وبات يصعب عليه أن يجزم إن كان المشاغب ميّتاً أم يعاني من أزمة نفسيّة حادّة تمنعه من الأكل أو الشّرب أو التّبرّز أو الحركة أو حتى الكلام، وما بالى بذلك؛ إذ أسعده أن يُحكم قبضته على عنق المشاغب، وأن يمارس وافر متعته المتمثلّة في إقفال الأبواب، وحمل المفاتيح، وخنق خَلْق الله خلف أبواب روحه المؤصدة التّي منعته من أن يفهم معنى تلك النّظرة الحانية التّي يراها في عيني المشاغب منذ أكثر من عشرين سنة قطعاها معزولين في هذا السّجن الذي نسيه النّسيان، وما كان له أن يعرف أن المشاغب يرثي لحال سجّانه المسجون معه دون أن يدري؛ إذ كان الفارق بينهما أنّ أحدهما مسجون في داخل الزّنزانة، والآخر خارج الزّنزانة، والفاصل بينهما مفتاح حديديّ صدأ يبات منذ عشرين سنة في كفّ السّجّان الذي وهن عظمه، وما وهن لؤمه. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

تابعنا على جوجل نيوز