
على مدى شهرين ارتدت محافظة ذي قار رداء المدينة الفاضلة، تلك المدينة التي رسمها الحكيم افلاطون في عالم أحلامه الفلسفي، المدينة التي يذوب فيها حب الأنا لدرجة الاندثار، المدينة التي يسودها الايثار وتتقدمها التضحية، وترتقي بالحب وعمل الخير والمساواة.
على مدى شهرين كانت الناصرية اعجوبة المدن، بل اسطورة تاريخية جمعها حب الإمام الحسين عليه السلام ، أو هكذا كان يتراءى لنا، حتى ظننا أننا نعيش في المدينة الفاضلة حقا.
انتهت مراسيم الزيارة الأربعينية، وخلع الشيطان ثوب الفضيلة، وظهر الوجه الحقيقي للعهر والفساد.
لحظة صحوة ضمير، أو لحظة تهرب من المسؤولية ورمي الكرة في ملعب الآخرين، وفي محاولة أخيرة لستر سوأتها، تخرج ادارة بلدية الناصرية بمسرحية التائب البريئ، لتكشف النقاب عن أعداد مهولة من منتسبين لا وجود لهم على أرض الواقع يتقاضون مليارات الدنانير في قسم بلدي واحد فقط.
وقبل أن تحاسب ادارة البلدية رؤساء الأقسام الذين تستروا طوال تلك السنوات على هدر المال العام دون اعلام الإدارة بحجم التسيب الحاصل، وقبل أن تضع الطينة في جبهة المسؤولين المتنفذين الذين كانوا يقفون خلف هذا الفساد المالي والاداري، وقبل أن تعترف بالتقصير وتتحمل المسؤولية أطلقت رصاصة الرحمة على المدينة الفاضلة.
48 ساعة هي المهلة التي حددتها البلدية أمام الشارع الذيقاري، والادعاء العام، والنزاهة، والسيد المحافظ، وقائد الشرطة، والقيادات الأمنية.
48 ساعة لحرق المدينة الفاضلة..
وتحققت نبوءة مدير البلدية ومعاونه، وخرج المئات يحملون اطاراتهم المحترقة، يشعلون النيران، ويغلقون الدوائر الحكومية، أمام عين الرقيب جهارا نهارا، معلنين اسدال الستار على مسرح المدينة الفاضلة.
448 عامل فضائي، وإن لم يكونوا فضائيين فهم مجرد أسماء تتقاسم الأموال مع المسؤولين مقابل نهب الثروات دون مقابل عمل.
448 اسم في قسم بلدي واحد فقط، يكشف عن حجم الفساد وكم الأعداد الهائلة في الأقسام الأخرى ، ويفتح الباب لكشف المستور في دوائر الدولة خارج نطاق البلدية، ويدعو لكشف الفساد في أقسام غير قسم النظافة في البلدية.
ليبقى أبناء المدينة الفاضلة الخريجين والعاطلين عن العمل يسكنون الساحات ويقفون الطوابير من أجل الحصول على وظيفة او باب رزق يسد رمق الجوع، بينما الآلاف المؤلفة تأكل اليابس والأخضر بغير وجه حق وبعلم ومرأى المسؤول.
المدينة الفاضلة تغلق أبوابها، وعذرا منك سيدي يا حسين، عذرا فنحن كنا نماري، ونتظاهر ونمارس رياضة المشي نحو كربلاء، عذرا منك يا حسين فأغلب أموالهم كانت سحتا، وخدماتهم رياء..