" طريد البؤس " .. قصة قصيرة تحصد المركز الأول

" طريد البؤس "  .. قصة قصيرة تحصد المركز الأول - وكالة خبر الاعلامية


حصلت قصة الكاتب السوري عبد الباسط واكية " طريد البؤس" على المركز الأول في مسابقة واحة الأدب في الكويت , بدورتها العاشرة. 


القصة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أذكره من حياتي الماضية هو شيء أشبه بالحلم:
أتذكّر حارتنا الفقيرة المنسيّة، وأتذكّر كيف يتبادل الرّجال لفافات الحشيش، وكيف تُشجّ الرّؤوس وتكسّر الأسنان والأيدي في العراك من أجل طير حمام…!
أبي يدخل البيت ثملا بعينين حمراوين، يضرب أمّي ضربا مبرّحا، وأنا أجلس في زاوية الغرفة كأرنب مذعور!
أمّي تغادر البيت مطلّقة، وأنا أحلّ محلّها في الضّرب والتّأنيب!
وذات جوع، قرّرت الخروج للبحث عن شيء يؤكل، مشيت ومشيت من دون هدف! 
كان الجوع يفتك بمعدتي عندما قصدت حاوية قريبة من محلّ لبيع الفلافل، أفتح تلك الأوراق التي تُلفّ بها السّندويتشات، فأجد بين طيّاتها لقمة خبز مع بقايا خسّ وطماطم وفلافل، طعمها لذيذ جدا!
لقد شبعت، حقّا شبعت، بل وشربت (الكولا) أيضا من العلب المرميّة في الحاوية، لم أشعر بامتلاء المعدة منذ طلاق أمّي.
غادرت الحاوية تاركا المجال للقطط لتشبع أيضا...!
وجدت نفسي في سوق من الأسواق وقد حلّ الظّلام. 
ساقتني قدماي إلى زاوية فيها بعض القمامة، وجدت كرتونة كبيرة يمكن أن تتّسع لجسد طفل نحيل في الثّامنة من العمر.
كانت تفوح من الكرتونة رائحة الأحذية الجديدة، أغمضت عينيَّ وأسلمت نفسي للنّوم. 
كانت ليلة هادئة هانئة لم أر فيها حلما واحدا!
قصدت المرحاض العام، قضيت حاجتي وأنا أتأمل على جدرانه كتابات ورسومات كتلك النّقوش التّاريخيّة التي شاهدتها يوما على التّلفاز، والتي تركتها الحضارات القديمة على جدران المعابد، لم أفهم الكتابات، ولكنّ الرّسومات تبعث على الخجل، هذا جعلني أستبعد أن تكون نقوشا ستترك كآثار للأجيال القادمة…
غسلت وجهي ومسحت شعري وغادرت إلى الحاوية لتناول وجبة الإفطار!
ثمّ ذهبت لأتجوّل في الأزقّة كالكلاب الشّاردة أدقّق في الوجوه من بعيد، أخشى أن يكون أحدها لأبي.
في المساء، لم أجد شرنقتي، أقصد الكرتونة، ولكن في سوق كهذا لا تنقطع الكراتين. 
تفوح من هذه الكرتونة رائحة (الفانيليا) لا شك في أنّني سآكل الكثير من البسكويت في أحلام هذه اللّيلة!
لم تمض السّنة الأولى من التّشرّد إلا وحولي عشر كراتين، يخرج من كلّ واحدة طفل، نفترق نهارا ونجتمع ليلا...
ثلاث سنوات مرّت على هذه الحال، ولا أظنّ أنّ أبي قد تأثّر لغيابي، وغالب الظّن أنّه يعتقد بوجودي عند أمّي الآن.
أمّي التي لا أعرف أين تكون، ولو عرفت لذهبت إليها، أظنّها تزوّجت، فهي ماتزال صغيرة وجميلة…
أنا الآن داخل الكرتونة، أغالب النّعاس، وعلى عقلي أن يصمت أيضا حتّى أنام، فغدا بانتظاري فجر جديد وأزقّة جديدة!
لقد كان فجرا جديدا حقا، فعلى غير العادة، جاء عمّال البلديّة لجمع النّفايات، يوقظون الأولاد النّائمين من حولي، ويرمون الكراتين في براميلهم ذات العجلات!
قال لي العامل:
قم يا ولد، انهض، نريد الكرتونة، فتحت عينيّ!
كان وجه أبي!.
أحدث أقدم

تابعنا على جوجل نيوز